إن الله -سبحانه وتعالى- استخلف البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والناس في ذلك شركاء، والمسلمون ينفذون أمر الله ومقاصده، قال الله تعالى: هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61) سورة هود، والاستعمار: معناه التمكين والتسلط، كما هو واضح من قوله سبحانه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10) سورة الأعراف. وقوله عز شأنه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً (29) سورة البقرة، وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ (13) سورة الجاثية، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء (22) سورة البقرة. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) سورة طـه، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) سورة الملك.
واللام في (لكم) تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، أي أن ذلك مختص بكم، مما يدل على أن الانتفاع بجميع مخلوقات الأرض، وما فيها من خيرات مأذون فيه، بل مطلوب شرعاً.
واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي بها قوام الدين والدنيا من فروض الكفاية، لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه. وخصصوا باباً معيناً للكلام عن (إحياء الموات) أو بتعبيرنا (استصلاح الأراضي المتروكة) كما فصلوا في بحث (الزكاة) أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز، ووضع الإمام أبو يوسف كتابه (الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الأرض وطرق الري من الأنهار الكبرى وموارد بيت المال من خراج ونحوه.
وحض الإسلام عموماً على الضرب في الأرض (أي السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها، والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر، والإنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس المشروع في كسبها، والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لأن معنى استخلاف الله للبشر وخلافتهم عن الله في الأرض يتطلب طاعة المستخلف طاعة كاملة، ولأن السيطرة على الأرض بتمكين الله للبشر تقتضي استغلال كل أوجه الخير فيها من استنبات الزرع، وإحياء الضرع، وتشجير الأشجار، واستخراج المعادن والزيوت، واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن والمصانع والقرى والمدن حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة الله وقدرته؛ لأنه هو مانح الحياة لكل الموجودات.
وذلك على النقيض تماماً من الاتجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو الشعور بألوهية الإنسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها، ولتقدمه العلمي والتقني والفني، مما يؤدي إلى عبادة المادة ويورث الإنسانية كثيراً من القلاقل والاضطرابات، والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة.
لذا فإن عمارة الأرض واستغلالها يتقيدان في الإسلام بطاعة الله والاهتداء بهديه والامتناع عما نهى عنه، والاعتقاد بأن الناس جميعاً شركاء في منتجات الطبيعة المباحة، فكان لا بد لهم من التراحم والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص، أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر...
ومن ثم فليس في الإسلام مجال للحقد أو الاستئثار أو الاستعمار بالمعنى الشائع اليوم، أو حجر الآخرين عن الانتفاع الحر بالأرض، لأن البشر هم خلق الله، وأحب خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله. فلا معنى لاستغلال جنس من الأجناس، أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) سورة الروم. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) سورة يــس.
قال الماوردي: (القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال وتشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، لكون الأسعار رخيصة فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا، وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء).1
أيها المسلمون: يقدم الإسلام أروع صورة لعمارة الأرض في ظل ثقافة التوحيد لله والاستخلاف للإنسان ، في داخل إطار المشروعية العليا الإسلامية، ألا وهى العدل المستمد من التوحيد، فلقد شاءت إرادة الخالق عندما خلق الكون وسخره للإنسان أن يحدد الطريق لإعمار الأرض ضمن إطار من الأحكام:
فهناك الأحكام المتعلقة بالضرورات وهذه ثابتة لا تتغير، والأحكام المتعلقة بالحاجيات كرفع المشقة، وبالتحسينات الملائمة للذوق، وهذه شديدة المرونة على حسب الأحوال، وأرسى بذلك قواعد النظام الاجتماعي في المجتمع المسلم؛ ليكون هديا لبني الإنسان في كل مكان وزمان.
وليس من شك في أن عبادة الله هي الأصل والأساس إذ يقول سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات، ولكن العبادة المقصودة بحكم النص القرآني أن الإنسان العابد لا بد أن يكون عاملا منتجا، باعتبار أن العمل الجاد هو السبيل لإسعاد الفرد والجماعة، وفى هذا يقول -سبحانه وتعالى-: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) سورة الحـج.
كما يقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) سورة القصص، ويقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) سورة الجمعة.
وكما أن الدين دعوة للتراحم والمودة فإنه كذلك دين وسط يدعو للعمل والإنتاج، ليعمر الكون، ويعيش الإنسان في خير وسعادة عندما يعمر نور الإيمان قلبه، ويحصن نفسه ويهذب أخلاقه، فيحيا في عمله، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) سورة التوبة، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) سورة المائدة، وليس أبلغ من هذا موازنة بين المادة والروح وبين الدين والدنيا، فكما أن الالتزام العام بفروض الكفاية يؤدى إلى التضامن بين أبناء الأمة، كذلك فإن الإنسان بالعمل يكون قدوة للآخرين فقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري.
فليس في الإسلام دعوة إلى الرهبنة أو نكران للمتع الحلال المباحة، وإنما هو دعوة صريحة للعمل الذي يتحقق به الإعمار الذي يعود بالخير على العالمين.
إن مزية الإسلام العظمى في مجال إعمار الأرض أنه -وهو يعمل على رفع الإنسان إلى أعلى؛ لموازنة ثقلة الشهوات- لا يدفعه إلى منطقة ينعدم فيها جذب الأرض، كما تفعل الرهبانية والهندوكية والبوذية، فهذه قد تيسر للإنسان التحليق في الفضاء، ولكنها تؤدي به إلى إهمال عمارة الأرض وحفظها من الفساد بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها تكاليف ربانية أمر بها الله، لأنه يعلم أن فيها صلاح الحياة والإنسان، وهو الذي خلقه ويعلم ما يصلحه وما يصلح له: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك:14). هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (هود:61). الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج : 41). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الصف: 10 -11).
وكذلك فإنه -وهو يوجه الإنسان إلى عمارة الأرض، والاستمتاع بالطيبات فيها- لا يتركه يغرق في حمأة الشهوات، لأنه عندئذ يترهل ويفسد، ويستثقل التكاليف التي يتطلبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، لأنها تبدو في حسه موانع تعوق الإنسان عن المتاع: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ (التوبة: 42). وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (التوبة: 86-87).
وإنما يعمل الإسلام على أن يقوم الإنسان متوازناً بين عنصريه المكونين له: قبضة الطين ونفخة الروح، عاملاً في الدنيا وعاملاً للآخرة في ذات الوقت: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك: 15).2
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في قوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).3
فالمؤمن القوي في إيمانه ونشاطه، وفي عمارته للأرض بالعلم والعمل والدعوة والنفع خير من المؤمن الضعيف، وفي كليهما خير..
وقال -صلى الله عليه وسلم- في أمر الدنيا وعمارتها: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل).4
وفي هذا الحديث "مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجئ بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا".5
هذا معنى عمارة الأرض وإصلاحها، فلتكن حياتنا أيها الناس حياة عامرة بالخير، مليئة بالبناء الإيماني والبناء الدنيوي، ليدخل المسلم في الإسلام كافة، ولا يكن منه في زاوية ضيقة، إن فهم الإسلام على أنه دين التبتل والرهبنة وأنه يدعو إلى ترك الحياة كلياً فهم خاطئ، إنما يمقت الإسلام الخنوع والخضوع إلى زهرة الحياة الدنيا وجعلها كل شيء، والقتال من أجلها والعداوة البغضاء لها، أو أن تكون الدنيا هي المسيطرة على حال الإنسان فينسى بذلك الأخلاق العلية والصفات التي ترفعه إلى درجة الإنسان العابد لله رب العالمين..
ولقد ملك هذه الدنيا أنبياء وصالحون مصلحون فعم بهم الخير، واستنارت البشرية بحكمهم، وسعدت المعمورة، أمثال نبي الله سليمان عليه السلام والعبد الصالح ذي القرنين، ونبي الله يوسف عليه السلام فإنه كان مسؤولاً كبيراً في دولة ملك مصر وكان له فيها تصرف في الأموال، ومع كل هذا لم ينسوا الله ولقاءه، ولم تشغلهم الدنيا عن العمل للدار الآخرة، بل كانوا مع مُلكهم ونبوتهم من أفضل عباد الله تقربا إليه، وعبادة له وإحسانا إلى خلقه..